استراتيجية داعش والتكتيك الجديد

هيئة التحرير 2.7K مشاهدات0

عمد تنظيم  (داعش) على اعتماد استراتيجيات عدة في عملياته، بعضها قديم وسبق أن استخدمته جماعات أخرى، كاستهداف المناطق “الرخوة” أمنياً بشكل عام كما فعل في أوروبا، وبعضها الآخر يبدو حديثاً نسبياً، وهو التغيّر في طريقة استخدام العمليات الانتحارية، وتحوّلها من عمليات تضطر التنظيمات المسلحة لاستخدامها، عند الضرورة القصوى ولأسباب استثنائية، إلى سلاح استراتيجي، يتم استخدامه بشكل دائم كسلاح ردع وهجوم كما يفعل التنظيم في العراق وسورية. بالإضافة إلى استراتيجية “داعش”الأشهر إعلامياً، المعروفة بـ”استراتيجية الذئاب المنفردة” والتي عمد التنظيم إلى ترويجها خلال السنوات القليلة الماضية، وحصد ثمارها أخيراً. بالإضافة إلى استهداف المناطق النائية البعيدة عن المدن الرئيسية المحصنة أمنياً، واستغلال الروابط العائلية لتنفيذ عمليات يقوم بها مناصرو التنظيم، وفق مبدأ “الذئاب المنفردة”، كما يفعل في السعودية.

ضرب الخواصر الرخوة

لا يمكن اعتبار استهداف مطار بروكسل عملاً عشوائياً، بل كل العمليات التي تبنّاها تنظيم “داعش” في أوروبا، كانت مخطط لها بعناية، أكان الهجوم على صحيفة “شارلي إيبدو” في باريس في يناير/كانون الثاني 2015، أم هجمات باريس المتزامنة في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أم هجمات بروكسل الأخيرة، في مارس/آذار الماضي، فكلها ارتكبتها خلايا مجهزة ومدربة بشكل جيد. لكن كل هذه العمليات استهدفت مناطق “رخوة” من الناحية الأمنية، وبعض المواقع تم اختيارها بشكل عشوائي، باستثناء صحيفة “شارلي إيبدو” التي استُهدفت بسبب سخريتها من رموز دينية، ومطار بروكسل، الذي لا تخفى أهميته الاستراتيجية.

استهدفت هجمات باريس مسرح باتاكلان، وعدة مطاعم، ومتجراً يهودياً وملعب كرة قدم ومحطات مترو، كما تم استهداف محطة مترو في بروكسل، وكلها مناطق “رخوة” أمنياً. في هذا السياق، يمكن اعتبار مطار بروكسل منطقة “رخوة” أمنياً، إذا كانت العملية تُخطط لاستهداف صالة المطار نفسها. ففي كل مطارات العالم، تبدأ إجراءات التفتيش الصارمة، بعد الدخول إلى صالات المطار، لا قبله، على اعتبار أن الحماية الأمنية مقدّمة للطائرات، لا صالات المطار التي تستقبل الركّاب. وإن كان اختيار المطار ليس عملاً عشوائياً، إلا أن المنطقة تُعتبر “منطقة رخوة”.

وتهدف هذه العمليات، بشكل عام، إلى إثارة الرعب بين المدنيين واستفزاز الدول المستهدفة لإعلان حالة الطوارئ القصوى داخلياً والاستنفار الأمني، بهدف رفع التكاليف السياسية لعمليات هذه الدول ضد التنظيم في العراق وسورية من جهة، ورفع التكاليف الاقتصادية للاحتياطات الأمنية المحلية من جهة ثانية. وهذه الاستراتيجية نظّر لها أبو بكر ناجي، في كتابه “إدارة التوحش”، الذي يُعتبر بمثابة “الدليل” لتنظيم “داعش”. يمكن ملاحظة الاختلاف بين هذه العمليات، وبين استهداف تنظيم “القاعدة” على سبيل المثال، للمدمّرة الأميركية “كول” على شواطئ اليمن، أو استهداف سفارة أميركا في نيروبي، أو أهداف عمليات سبتمبر/أيلول 2001: مبنى مركز التجارة العالمي، والبنتاغون، كرموز اقتصادية وعسكرية، فكانت الأهداف مختارة بعناية، حتى وإن كان “القاعدة”، قد قام باستهداف مناطق رخوة أمنياً، كمحطات المترو في لندن ومدريد، بعد إضعافه إثر الاحتلال الأميركي لأفغانستان.

أسلوب التفخيخ وعربات الانتحاريين

النقاش حول العمليات الانتحارية قديم، وبدأ بشكل أساسي عند الحديث عن طريقة مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. وتباينت الفتاوى الدينية في حينه حول إباحة العمليات الانتحارية، واعتبارها عمليات استشهادية، أو رفضها بالمطلق. لكن القاسم المشترك بين أغلب الفتاوى الدينية التي أباحت هذه العمليات، إما اقتصارها على الفلسطينيين، باعتبار أن لا سلاح آخر لمواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً بعد الانتفاضة الثانية، أو وضع ضوابط لها، حددتها باعتبار هذه العمليات لا تباح “شرعاً” إلا في حالات قصوى من باب الضرورة.
في المقابل، كان تنظيم “القاعدة” يبيح لنفسه استخدام العمليات الانتحارية، باعتبار عملياته داخلة في حكم “الضرورة” التي تبيح أي محظور. وحوت وثائق “آبوت أباد” مراجعات داخل التنظيم، وأكد زعيم “القاعدة”، أسامة بن لادن، أهمية عدم التساهل في استخدام العمليات الانتحارية (والتي يسميها عمليات استشهادية) إلا في الحالات الضرورية، وباتفاق القادة الشرعيين، ويظهر هذا في مراسلاته مع أبو مصعب الزرقاوي. وكانت العمليات الانتحارية التي يقوم بها تنظيم “القاعدة” في العراق محدودة نسبياً (مقارنة بعمليات داعش لاحقاً). ويوجد تفسيران لهذا الأمر: الأول عدم وجود عدد كبير من المقاتلين بما يسمح باختيار انتحاريين منهم. والأمر الآخر، التردد باستخدام العمليات الانتحارية كسلاح، من دون وجود اضطرار له.

أما اليوم، فيظهر تغيّر كبير في تعامل تنظيم “داعش” مع العمليات الانتحارية، التي تحوّلت معه إلى سلاح استراتيجي، وهو ما يظهر بتضاعف عدد العمليات الانتحارية التي أعلن التنظيم عن تبنيها خلال الأشهر القليلة الماضية في العراق وسورية. العمليات الانتحارية التي تبنّاها “داعش” في العراق وسورية، تضاعفت أربع مرات خلال سبعة أشهر. فبينما كان عدد الهجمات الانتحارية في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، 27 عملية، أعلن التنظيم أنه نفذ 112 عملية في مارس/آذار 2016. وباستثناء الصعود المفاجئ للعمليات في شهر أكتوبر/تشرين الأول إلى 105 عمليات، فقد تزايدت العمليات بشكل مطرد، من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وحتى مارس/آذار، إذ نفذ التنظيم 54 عملية في نوفمبر/تشرين الثاني، و61 عملية في ديسمبر/كانون الأول، و85 عملية في يناير/ كانون الثاني، و88 عملية في فبراير/شباط، ليكون شهر مارس/آذار الماضي هو الأعلى من ناحية عدد العمليات، والتي بلغت 112 عملية.

ويمكن طرح فرضيات عدة لتفسير هذه الزيادة المطّردة في أعداد العمليات الانتحارية التي نفذها “داعش” أخيراً، ومنها أن مساحة احتكاك التنظيم مع النظام السوري، و”الحشد الشعبي” في العراق، والقوات الكردية، وفصائل المعارضة المسلحة السورية، ومع التدخّل الروسي في سورية في 30 سبتمبر/أيلول والدعم الأميركي المتزايد للقوات الكردية في الفترة ذاتها، بدأت بالتزايد، مما استدعى قيامه بعمليات أكثر. الفرضية الأخرى أن الخناق بدأ يضيق على التنظيم وأنه في حالة انحسار، خصوصاً مع التقارير الأميركية التي تشير إلى تراجع المساحات التي يفرض التنظيم سيطرته عليها، والحديث عن توقف تدفق المقاتلين إلى صفوفه من الخارج، مما يعني أنه يحاول تعويض تراجعه بزيادة العمليات الانتحارية.

أما الأهم في هذه السياق، فهو أن التنظيم لم يعد يستخدم العمليات الانتحارية كسلاح استثنائي عند الضرورة القصوى، بل بات يستخدمها بشكل كسلاح استراتيجي وبشكل متكرر، ويصف عناصر التنظيم العمليات الانتحارية بأنها “سلاحه النووي” و”قنابله الذكية” في ترسيخ لهذا التوجه.

استراتيجية “الذئاب المنفردة”

تُعتبر هذه الاستراتيجية الأشهر والأكثر انتشاراً في تحليل عمليات تنظيم “داعش” حول العالم منذ سنوات. وتتلخّص في قيام فرد، أو مجموعة صغيرة من الأفراد، لا تتجاوز ثلاثة أشخاص عادة، بعملية تخدم أهداف التنظيمات الإرهابية، من دون أن تكون لهم صلة مباشرة بالتنظيم. ولم يتم تجنيدهم أو مشاركتهم التخطيط للعملية، أو توجيههم، بل تصرفوا من تلقاء أنفسهم لخدمة أهداف التنظيم، من دون علاقة مباشرة. حدث هذا في مناطق مختلفة من العالم، وبينما لا تشمل “استراتيجية الذئاب المنفردة” عمليات معدة باحترافية، كتلك التي ضربت بروكسل وباريس، والتي وقف وراءها أشخاص على صلة بـ”داعش”، بعضهم قاتل مع التنظيم في العراق وسورية، إلا أن وصْف “الذئاب المنفردة” ينطبق على هجمات كتلك التي قام بها الزوجان سيد فاروق وتاشفين مالك، اللذان وُصفا بأنهما “مناصران” لتنظيم “داعش”، لا أعضاء فيه، بعد تنفيذهما هجمات كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية؛ إذ لا توجد صلة “تنظيمية” مباشرة بينهما وبين “داعش”، كما أظهرت التحقيقات.

كما يمكن اعتبار “استراتيجية الذئاب المنفردة” تنطبق بشكل مباشر على عمليات اغتيال رجال أمن في السعودية أخيراً، والتي نُفذت بصورة عشوائية من متعاطفين ومناصرين للتنظيم، قاموا بتصوير عملياتهم، وإعلان “مبايعتهم” لزعيم “داعش” أبو بكر البغدادي، وولائهم للتنظيم. كما يمكن أن تنطبق، ولو بشكل أقل، على عمليات استهداف المساجد في السعودية والكويت، والتي قامت بها خلايا محدودة العدد، يُشك في أن لها صلات مباشرة بتنظيم “داعش”، في الوقت الذي لا يمكن لمثل هذا النوع من العمليات أن يكون عشوائياً وارتجالياً، على الأقل بسبب تعقيد عملية صناعة الأحزمة الناسفة المستخدمة.

صلة القرابة

يعمد تنظيم داعش أما استغلال الصلات العائلية للقيام بعمليات اغتيال، فهو أكثر استراتيجيات التنظيم إثارة للرعب أخيراً فيالسعودية. الهجمات التي يقوم “داعش” بتبنّيها، والثناء على مرتكبيها، بدأت بالانتشار بصورة غير مسبوقة. فبعد أن قام محمد الغامدي، في 14 يوليو/تموز 2015، باغتيال والده، وتفجير نفسه في نقطة أمنية، انتقاماً من تبليغ والده عن نشاطاته المشبوهة، تكرر الأمر لاحقاً، وتم بعد يومين من حادثة الغامدي، اغتيال العقيد راشد الصفيان من قبل ابن اخته في 16 يوليو/تموز. وفي العام نفسه، في سبتمبر/أيلول، أقدم سعد العنزي، بمساعدة أخيه عبدالعزيز، على قتل ابن عمهما مدوس العنزي، الجندي في القوات المسلحة السعودية، وقاما بتصوير العملية ونشرها عبر الإنترنت. كما قام أبناء عم الوكيل الرقيب في قوات الطوارئ، بدر حمدي الرشيدي، باغتياله و”مبايعة” تنظيم “داعش” في فبراير/شباط 2016، وقاموا بتوثيق العملية وتصويرها ونشرها عبر الإنترنت. وقامت قوات الأمن السعودية بملاحقتهم وقتلهم لاحقاً، في 11 مارس/آذار الماضي.

وتداول سعوديون قبل بضعة أيام، أنباء عن احتمال تورّط أحد أقارب العقيد كتاب الحمادي في اغتياله، بعدما أعلنت وزارة الداخلية السعودية عن مقتله إثر تعرضه لإطلاق نار من مجهول، في مركز العرجا بمحافظة الدوادمي غرب الرياض. وأعلن تنظيم “داعش” تبنيه للعملية. في الوقت الذي تبنى فيه عملية أخرى، قبل أيام، في الدلم بمحافظة الخرج، بعد أن أعلن المتحدث باسم الداخلية، عن استهداف دورية أمنية تابعة لشرطة الدلم في محافظة الخرج جنوب العاصمة الرياض، بعبوة ناسفة أثناء توقفها بالقرب من مركز الشرطة يوم السبت الماضي، مما أدى إلى مقتل مدني وتعرّض ثلاث دوريات لأضرار مختلفة.

يمكن القول تجمع هذه العمليات، الملامح الثلاثة الرئيسية، إذ تشترك كلها في أنها تمت ضمن “استراتيجية الذئاب المنفردة” من قِبل أفراد ليسوا بالضرورة عناصر في التنظيم، وأنها جرت في مناطق نائية نسبياً، بعيداً عن الرياض أو المدن الرئيسية الكبرى كالدمام أو جدة أو بريدة أو أبها. كما أنها، وباستثناء استهداف دورية الشرطة بعبوة ناسفة، استغلت الصلات العائلية، للقيام بعمليات اغتيال لرجال أمن غدراً. كل هذه العمليات، تم إلقبض على مرتكبيها أو تصفيتهم، بعد مدة قصيرة نسبياً من قيامهم بجرائمهم، وغالباً ما تم هذا في مناطق نائية بعيدة عن المدن.

الا انه لم تمر أي من عمليات الاغتيال تلك من دون أن يُقبض على مرتكبيها. والأمر يتعلق بعدة عوامل، فبالإضافة إلى إيلاء السلطات السعودية، أولوية قصوى، لمواجهة تنظيم “داعش” في المملكة، قام بعض مرتكبي هذه العمليات بكشف هوياتهم للسلطات الأمنية مباشرة، من خلال توثيق جرائمهم بالفيديو، ونشرهم للمقاطع بغرض إعلان الولاء للتنظيم، وتأكيدهم على وصف من يقومون بقتلهم بـ”المرتدين” على حد قولهم، بسبب عملهم في الأجهزة الأمنية للدولة. أما العمليات التي لم يتم تسجيلها بشكل مباشر، فغالباً ما تتضح معالمها سريعاً، بسبب صلة القرابة التي تجمع ما بين المجرم والضحية.

المصدر : العربي الجديد

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: