العراق ودول الخليج : موازين الخارجية .. وصراع العلاقات

هيئة التحرير 2.7K مشاهدات0

ملخصتناقش هذه الورقة مواقف القوى السياسية العراقية المختلفة من العلاقات مع دول الخليج، وطبيعة العوامل والمدركات والتوازنات الخارجية والداخلية التي تؤثِّر في صياغة تلك المواقف.

يرتبط إجمالا موقف العراق من الخليج بمشكلة العراق مع ذاته، كما بمشكلة الخليج مع هويته. فالعراق الذي قادته رسميًّا عقيدة قومية عربية ومناوئة للغرب، كان يرى في فكرة الخليج هوية إقليمية ضيقة. أمَّا عراق اليوم، الذي تقوده قوى إسلامية-شيعية، فيرى في دول الخليج “ضدًّا-طائفيًّا”، ويركن إلى مظلة التحالف مع إيران.

مقدمة

لا يمكن اختزال نظرة العراقيين إلى الخليج والخليجيين بصفة واحدة، كما لا يمكن الحديث عن رؤية عراقية واحدة نحو العلاقة مع الخليج. يتبدى الطابع المعقد –والديناميكي- للنظرة العراقية إلى الخليج من التباين بين طبيعة ومستويات التفاعل على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فهي لا تتحرك بسرعة واحدة ولكنها تؤثِّر على بعضها البعض. وطالما كُنَّا نتحدث عن طرفين، العراق والخليج، فإن من البديهي الإقرار بأننا هنا أمام علاقة تبادلية تفاعلية قد تطغى عليها السلبية والصراع والمخاوف في مراحل معينة، وقد تتسم بالحيوية والتواصل المكثف في مراحل أخرى. بمعنى أن نظرة العراقيين وقواهم السياسية للخليج لا تنعزل عن نظرة الخليجيين للعراقيين ولتلك القوى، فالكثير من التصورات والأفكار تقولبها ردود الأفعال والتموضعات.

فيما يلي معالجة لمواقف القوى العراقية المختلفة من الخليج والمحدِّدات المؤثِّرة في تشكُّل تلك المواقف. 

أولًا: العلاقات الإقليمية والتوازنات الداخلية 

يمكن بداهة افتراض أنه كلما استقلَّت الصراعات الداخلية العراقية عن محيطها الإقليمي، واندرجت أكثر في سياق تنافس داخل النظام، كان بإمكان تلك القوى أن تنسج مواقفها تجاه الآخر الخارجي وفق حسابات سياسية يغلب عليها الطابع البراغماتي. على العكس، فإن اتصال الصراع السياسي الداخلي بالبيئة الإقليمية، يضعف هامش المناورة عند تلك القوى ويجعلها إلى حدٍّ كبير أسيرة تموضعات هوياتية وأيديولوجية يستعصي الانفلات منها.

بموجب ذلك يمكننا استنتاج أن مدركات القوى العراقية تأثَّرت كثيرًا بحدَّة الاستقطاب الإيراني-الخليجي في السنوات الأخيرة، وهو استقطاب كان قد تصاعد أصلًا نتيجة الصراع في العراق وتمكُّن الإيرانيين من بناء نفوذ كبير في هذا البلد. فالسياسة الإيرانية في العراق انتقلت من موقف دفاعي بعد 2003، حينما كانت هناك خشية إيرانية من اندفاع الولايات المتحدة إلى عمل عسكري ضد إيران بعد إسقاط نظام صدام حسين، إلى طابع هجومي هدفه تعميق النفوذ الإيراني في العراق سواء عبر التأثير على عملية تشكيل مؤسسات النظام الجديد أو عبر توطيد شبكات تحالفات سياسية-عسكرية موازية لتقييد قدرة هذا النظام على الاستقلال عن إيران. وفي الآونة الأخيرة يمكن استشعار أن إيران أخذت تتحول إلى قوة محافظة في العراق هدفها الأساسي عدم السماح بتغييرات جذرية في بنية النظام والعلاقات بين مراكز قواه تهدِّد النفوذ الذي بنته في هذا البلد، كما بدا مؤخرًا في اتخاذ الجانب الإيراني موقفًا غير ودي تجاه محاولة مقتدى الصدر زعزعة البنية السياسية القائمة وتعزيز مواقع قوته بمعزل عن الدور الإيراني، بل وأحيانًا بالضد من هذا الدور.

تمثَّلت آخر محاولة خليجية جدية لمقاومة الاندفاع الإيراني في العراق في الدعم الخليجي النسبي للقائمة العراقية التي ترأَّسها الشيعي الليبرالي، إياد علاوي، في انتخابات العام 2010. أخفق ذلك الدعم، بفعل صفقة إيرانية-أميركية، في إحداث التأثير المطلوب على صعيد هوية وبنية النظام الجديد، بل إنه سمح بإعادة تجمع القوى الشيعية برعاية إيرانية في تحالف أفضى إلى تمديد رئاسة نوري المالكي للحكومة أربع سنوات أخرى اتبع خلالها سياسة استهدفت توثيق سيطرته والقوى المتحالفة معه على مقاليد السلطة.

مع انتقال منصب رئيس الوزراء إلى القيادي في حزب الدعوة، حيدر العبادي، وتبني الأخير خطابًا إصلاحيًّا وسياسة أقل تشددًا من سلفه، مع عودة الاهتمام الأميركي بترتيب الوضع العراقي إثر اجتياح تنظيم الدولة لعدَّة مدن عراقية، حصل تحول محدود في الموقف الخليجي، وتحديدًا السعودي، باتجاه فتح قنوات التواصل مع بغداد. بادر الملك السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، بإرسال تهنئة إلى العبادي، وأعلنت السعودية عن إعادة افتتاح سفارتها في بغداد لأول مرة بعد 25 عامًا من قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتعيين ثامر السبهان سفيرًا للمملكة في العراق . وانطلقت هذه المقاربة من شعور بأن الانخراط الأميركي المستجد في العراق سيسهم في رسم حدود للنفوذ الإيراني، وأن مغادرة المالكي -المحسوب على المحور الإيراني- السلطة تقدم فرصة لإعادة نوع من التوازن السياسي في الوضع العراقي وترتيباته المستقبلية، كما أن الخطر الذي بات يمثِّله تنظيم الدولة وتهديداته للسعودية والخليج صار يتطلب مزيدًا من الانخراط في ترتيبات مواجهة التنظيم.

لا يمكن الجزم بأن الانفتاح السعودي المحدود على حكومة العبادي يعكس مقاربة خليجية جديدة للوضع في البلد، فالعلاقات الخليجية-العراقية ما زالت إلى حدٍّ كبير أسيرة التوتر المتصاعد مع إيران، كما اتضح في الصدام بين الموقف الرسمي العراقي والموقف السعودي والخليجي في الجامعة العربية حينما رفض وزير الخارجية العراقي، إبراهيم الجعفري، مشروع القانون المدعوم خليجيًّا باعتبار حزب الله منظمة إرهابية، بل ووجَّه نقدًا شديدًا للمطالبين بذلك، بما دفع الوفد السعودي إلى الانسحاب من جلسة مجلس الجامعة أثناء إلقاء الجعفري كلمته.

كذلك فإن الاستقطابات الداخلية العراقية تلعب دورًا مهمًّا في تشكيل مواقف القوى العراقية تجاه المحيط الإقليمي، في ضوء محددين أساسيين:

  • الأول: مستوى الدعم السياسي والمالي الذي تحصل عليه تلك القوى من الحليف الخارجي.
  • الثاني: هو القاعدة الاجتماعية-الانتخابية التي تتحرك ضمنها وطبيعة قراءة تلك القاعدة للبيئة الخارجية.

ويمكن القول هنا: إنه في دولة هشة تعيش صراعًا حادًّا كالعراق، فإن الحدود الفاصلة بين الداخلي والخارجي لا تكون شديدة الوضوح، والنظرة إلى ما هو “خارجي” تتأثر بشدة بالمعطيات الداخلية، والعكس صحيح.

وكما أن العامل الإيراني لعب الدور الرئيسي في صياغة السياسة الخليجية -والسعودية تحديدًا- تجاه العراق، فإن مدى القرب أو البُعد من إيران لعب دورًا مماثلًا في تشكيل مواقف القوى العراقية من الخليج. فالقوى التي تلتصق بإيران بشكل بنيوي وتتبنى قراءات أيديولوجية مسايرة لخط التيار الثوري في الجمهورية الإسلامية، مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، تميل إلى اتخاذ موقف متشكك، وأحيانًا عدواني تجاه الدور الخليجي. فبالرغم من أن معظم القوى السياسية والاجتماعية الشيعية في العراق، بما فيها المرجعية الشيعية العليا، ندَّدت بإعدام السعودية لرجل الدين الشيعي المعارض، نمر النمر، فإن تلك القوى المرتبطة بنيويًّا وأيديولوجيًّا بالحرس الثوري الإيراني حاولت تجاوز الجميع بمستوى ردِّ الفعل، حينما قامت باصدار بيان مشترك شديد اللهجة مطالِبة بطرد السفير السعودي ومقاطعة البضائع السعودية. وهذه القوى عمومًا لا تميل إلى التمييز الصريح بين المصالح العراقية والإيرانية، وتنخرط بوضوح في المحور الإيراني كما حصل عبر مشاركتها في الصراع السوري، أو في المساومات التي تبنتها بخصوص قضية الصيادين القطريين في العراق.

بالمقابل، فإن القوى الأكثر عداءً لإيران تميل إلى دعم السعودية والمراهنة على دور خليجي أكبر في العراق. ومنذ العام 2003 طور بعض الجماعات السنية -بشكل خاص- خطابًا معارضًا لإيران، يؤكد على “الهوية العربية” أو “القضية السنية” كأساس للتضامن واستدعاء الدعم الخليجي المباشر. نجد أمثلة لهذا النوع من الخطاب في بيانات وتصريحات جماعة تطلق على نفسها تسمية “ائتلاف القوى السنية”، والتي تميل إلى التأكيد على “الخطر الشيعي” في العراق، وعلى ضرورة دعم الخليج لسُنَّة العراق من أجل وقف المد الإيراني. وبينما يؤكد خطاب هذه الجماعة على البُعد الطائفي “السُّنِّي” في الشراكة مع الخليج، فإن جماعات أخرى، مثل “المشروع العربي في العراق”، حديثة التأسيس نسبيًّا، والتي يرتبط زعيمها بعلاقات جيدة مع عدَّة حكومات خليجية، يؤكد ذلك الزعيم على البُعد العربي في تلك الشراكة ويميل إلى خطاب أقل تشددًا، دون أن يخفي نقده الحاد للميليشيات الشيعية.

وبين هذين الخطين المتقابلين، أي: القوى الشيعية القريبة من التيار المتشدد في إيران والقوى السنية القريبة من الخط الخليجي المتشدد، هناك طيف واسع من القوى التي استقلت بعض الشيء في قراءاتها السياسية عن العامل الخارجي وتُوسِّع هامش مناورتها الذاتية دون أن يتجاوز بشكل صريح الخطوط التي رسمتها حالة الاستقطاب “الطائفي” القائمة، أو الصراع الجيوسياسي في المنطقة. ومعظم هذه القوى ينشط داخل العملية السياسية ولديه تمثيله البرلماني والحكومي على مستويات مختلفة، وقد طور بالنتيجة مصالح وتحالفات خاصة به تؤثِّر -جزئيًّا- على بلورته لمواقفه وعلاقاته الخارجية، أو في الأقل على خطابه السياسي.

ثانيًا: القوى الشيعية والعامل الطائفي

بالرغم من أن القوى الشيعية الرئيسية، حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى والتيار الصدري، تمتلك علاقات متينة -وأحيانًا تاريخية- مع إيران، وغالبًا ما تنسجم في مواقفها المتعلقة بشؤون المنطقة مع السياسة الإيرانية، إلا أن ذلك لا يعني أنها متماهية بشكل تام مع الموقف الإيراني تجاه العلاقات مع الخليج، كما هي حال القوى المرتبطة بنيويًّا وأيديولوجيًّا بالحرس الثوري الإيراني. فحزب الدعوة الذي يتولى قيادة الحكومة منذ العام 2005 منقسم اليوم إلى تيارين: واحد يقوده رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، والثاني يقوده رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي. تعزَّز هذا الانقسام بعد اتخاذ العبادي وعدد من قادة الحزب قرارهم بعدم التجديد للمالكي في رئاسة الوزراء، بما أفضى لتعيين العبادي بديلًا عنه، وهو أمر وُوجِه بتحفظ إيراني في البداية بينما لقي ترحيبًا خليجيًّا. ورغم أن الموقف الإيراني تغيَّر تدريجيًّا باتجاه التعامل مع العبادي، إلا أن هذا التعامل لم يرقَ أبدًا إلى مستوى التحالف الذي وصلت إليه العلاقة سابقًا بحكومة المالكي، خصوصًا أن العبادي تمتع بدعم أميركي كبير واصطدم في بعض المناسبات بالميليشيات المدعومة إيرانيًّا.

أظهر العبادي ميلًا -لفظيًّا- لتحسين العلاقات مع الخليج، لكنه لم يُحدث اختراقًا مهمًّا بسبب خشيته من الذهاب بعيدًا في سياسات يُفهم منها أنها تمثِّل تحدِّيًا صريحًا للنفوذ الإيراني في العراق، ولأنه ترك ملف العلاقات العربية بيد وزير خارجيته، إبراهيم الجعفري، الذي تصرف في مجال السياسة الخارجية بقدر كبير من الاستقلالية عن رئيس الوزراء (نظرًا إلى أن الجعفري يَعتبر أنه صاحب الفضل في صعود العبادي لمنصب رئيس الوزراء ولأن لديه تاريخًا أكثر عراقة في قيادة حزب الدعوة على الرغم من أنه انشق عن الحزب منذ العام 2006). في المقابل، فإن الضعف الذي أظهره العبادي وعدم إمساكه بالقرار العسكري ومحدودية هامش المناورة لديه بسبب صغر كتلته النيابية، لم يشجع دول الخليج على توجيه رهاناتها نحوه. 

ويتمتع المجلس الإسلامي الأعلى بعلاقات تاريخية مع إيران إلا أنه في ظل قيادة عمار الحكيم أظهر براغماتية أكبر في توجهاته الداخلية والخارجية، وتجنَّب بشكل واضح الخطاب السياسي التصعيدي والتأزيمي طارحًا نفسه كقوة وسطية تميل إلى سياسات الشراكة وعدم التفرد داخليًّا، واحتواء المشاكل وعدم التصعيد خارجيًّا. وقد سبق للحكيم زيارة السعودية في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز، كما زار قطر في منتصف العام الماضي، ولكنه حرص بنفس الوقت على الإبقاء على علاقاته الجيدة مع الجانب الإيراني، وبشكل خاص التيار المعتدل في القيادة الإيرانية الذي يمثِّله الرئيس روحاني ووزير خارجيته محمود ظريف.

يبدو الأمر مشابهًا في حالة مقتدى الصدر وتياره، مع فارق أساسي هو أن القاعدة الشعبية الواسعة للصدر والتي يفتقر إليها المجلس الأعلى، شجعته على تبني مواقف أكثر استقلالية عن الإيرانيين، وأحيانًا، وليس دائمًا، مواقف أكثر حدَّة تجاه الخليجيين. يميل الصدر عمومًا إلى التعبير عن النزعة الوطنية الاستقلالية بين شيعة العراق، كما تجلَّى مثلًا في رفضه الالتحاق بركب المحور الإيراني في الصراع السوري، وفي سعيه إلى تحدي رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، المدعوم إيرانيًّا، وفي القيام بخطوات غير متوقعة مثل دعمه للتظاهرات والحركة الاحتجاجية ضد الطبقة السياسية والمحاصصة، إلى حدِّ اقتحام أنصاره لمبنى البرلمان، وهو أمر انتقده مستشار المرشد الأعلى الإيراني، علي أكبر ولايتي، في حوار له مع صحيفة الأخبار. لكن هذا الموقف لم يُترجم إلى اختراق على صعيد العلاقات مع الخليج، بسبب الحدود التي يرسمها الاستقطاب الطائفي في المنطقة اليوم والتي تجعل من العصي على الصدريين تبني سياسات غير شعبية شيعيًّا، وسيظل الأمر كذلك ما لم ينخفض منسوب التوتر الطائفي في المنطقة.

مع ذلك، وعلى الرغم من أهمية العامل الطائفي في مرحلة الاستقطاب الجيوسياسي الراهن، من الخطأ اختزال كل مضمون العلاقات بين شيعة العراق والخليج بهذا العامل. فغالبية الشيعة يتركزون في مناطق جنوب العراق، بمعنى أنهم أقرب جغرافيًّا للخليج، ويصح ذلك بشكل خاص على البصرة؛ حيث تقع إطلالة العراق الوحيدة على مياه الخليج ومعظم الثروة النفطية المستغلة. بهذا المعنى، فإن البصرة ذات الغالبية الشيعية، هي منطقة ذات هوية جغرافية خليجية. كذلك يشير الطابع الإثنو-ثقافي للبصرة وجنوب العراق، خصوصًا فيما يتعلق باللغة والملبس والمأكل والعادات الاجتماعية، إلى صلات مشتركة مهمة مع الخليج. وثمة تباين اجتماعي-ثقافي تقليدي في الجسد الشيعي بين مدن الجنوب المتمحورة حول البصرة، ومدن الفرات الأوسط المتمحورة حول النجف وكربلاء. فالأولى تتمتع بسمات هوية مغايرة، وهي أقرب إلى الخليج ثقافيًّا، بينما تتسم الثانية بقوة العلاقة والارتباط مع إيران بفعل التبادل الديني والثقافي الذي يحصل على هامشه تبادل اقتصادي مكثف. يظل هذا الانقسام كامنًا وموجودًا ويعبِّر عن نفسه أحيانًا بتذمر جنوبي من سيطرة العوائل والنخب الكربلائية والنجفية، لكنه ضَعف في جو الاستقطاب الطائفي وصعود الشيعية السياسية.

تكمن المشكلة في التسييس المتزايد للهويات الطائفية الذي حصل في العراق والمنطقة خلال العقود الأخيرة. فتحول “الهوية المذهبية” إلى عنصرٍ تعريفي رئيسي للانتماء السياسي-الاجتماعي، أدَّى إلى تعميق دور العامل الطائفي في تشكيل نظرة الناس لأنفسهم ولمحيطهم ولعلاقتهم مع الآخرين. بالوسع الحديث هنا عن عملية “تطييف” للهويات، طمست أو أضعفت تأثير الكثير من التنوعات داخل الطائفة الواحدة، والكثير من المشتركات العابرة للطائفة. بمعنى، أن الفجوة الموجودة بين العراق والخليج ليست بالضرورة نتاجًا لوجود أغلبية شيعية في العراق، بل في المعطى السياسي الذي باتت تجسده هذه الحقيقة. فالعلاقات بين المؤسسة الدينية الشيعية ودول الخليج لم تكن دائمًا علاقة صراعية، ويُذكر هنا أنه في العالم 1968 زار المرجع الشيعي الأعلى، محسن الحكيم، السعودية لأداء فريضة الحج، وهناك استقبله الملك فيصل بن عبد العزيز. وللمؤسسة الشيعية حتى اليوم مكاتب في البلدان الخليجية التي يوجد فيها عدد ملموس من الشيعة.

استفادت قوى الإسلام السياسي الشيعي التي جاءت من المنفى، بعد العام 2003، من العامل الطائفي لكي تؤسس لها قاعدة اجتماعية وتكتسب مشروعية سياسية بوصفها ممثلة لـ”الطائفة”. وبالنسبة لإيران، فإن ذلك التحول خدمها في الظهور كقوة حامية للشيعة من إقليم جرى تصويره على أنه يُكِنُّ البُغض لهم. ولكن عملية العزل الطائفي أسست لمناخ جديد، أسهم في عزل إيران نفسها عن المحيط الإقليمي السنِّي. هذه المواقف أسهمت في تكريس وضع وصورة العراق كخصم للخليج، وبلد يهيمن عليه الشيعة، في إطار من التعبئة المذهبية المتقابلة التي تجعل صفتي “شيعي” و “سُني” في موضع التناقض.

ثالثًا: القوى السنية والبحث عن الراعي الإقليمي

أدَّى الفرز المذهبي إلى نمو وعي هوياتي طائفي بين سُنَّة العراق، وأطلق عملية إعادة ابتكار وتشكيل للهوية السنية، وهي نتيجة حتمية لنظام سياسي يقوم على مركزية الهويات الطائفية ولوضع من الاستقطاب السياسي الإقليمي، الذي يجد تعبيراته الأقوى في الدول الهشة كالعراق. أخذ الكثير من السياسيين السنَّة يتقربون من دول الخليج ويحصلون على الدعم منها، بشكل كرَّس فكرة أن الخليج يدعم السنة حصرًا، وهو ما استغلته القوى الشيعية الأقرب إلى الخط المتشدد في إيران لتسويق خطابها في الشارع الشيعي.

خلال السنوات التي تلت الحرب، هاجرت نخب اجتماعية وثقافية وسياسية وعسكرية سنية إلى دول الخليج، ومن هناك أسهمت في صناعة رأي عام خليجي مناوئ للأوضاع في عراق ما بعد الاحتلال، يحمل تصورًا سلبيًّا تجاه ما يحصل هناك. وساد لدى العديد من النخب السنية العراقية الاعتقاد بأن العلاقة مع دول الخليج مهمة وضرورية في دعم وحماية السنة، وخلق بعض التوازن تجاه النفوذ الإيراني الداعم للقوى الشيعية. غير أن الاتكال السياسي السني على الخليج اتسم بالمبالغة في التوقعات، كما أدَّى بالنتيجة إلى نمو شعور بين الكثير من السنَّة العراقيين بأن دول الخليج لم تفعل لهم ما يكفي في مواجهة الحكومة -التي يهيمن عليها الشيعة- والنفوذ الإيراني. وقد ترتب على ذلك أحيانًا توجه بعض السنة -انخراطًا أو دعمًا أو تعاطفًا- إلى جماعات سنية متطرفة، مثل القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام، وهي جماعات تناوئ معظم الحكومات الخليجية بقدر عدائها للحكومة العراقية التي تقودها قوى شيعية، أو بالعكس، إلى فتح قنوات التواصل مع الجانب الإيراني والانتقال إلى بناء شراكات مع القوى الشيعية. 

ويمكن القول: إن التشظي الذي يتسم به الوضع السني لم يسمح بنشوء تكتل سياسي سني قادر على تمثيل المجتمع المحلي وبنفس الوقت الارتباط بعلاقات دعم وتكافل خارجية راسخة مع دول الخليج. ويأخذ هذا التشظي ثلاثة أوجه:

  • الأول: هو الانقسام بين القوى العشائرية من جهة والقوى الحزبية من جهة أخرى، وتحديدًا الحزب الإسلامي الذي ما زال يمثِّل أكثر الأحزاب السنية تنظيمًا.
  • الثاني: هو انقسام مناطقي ومنشأه الأساسي هو الاختلاف الديمغرافي-الاجتماعي بين المدن والمناطق السنية؛ فبينما تميل النخبة المدينية في الموصل إلى الاقتراب من تركيا، كما هي حال الكتلة التي قادها أسامة وأثيل النجيفي، فإن للزعامات المحلية في الأنبار علاقات بالأردن وبعض دول الخليج، كما بتركيا.
  • الثالث: هو انقسام سياسي ويتعلق بالموقف من بغداد، فبينما ما زال هناك بعض الجماعات التي تتبنى مواقف متشددة تجاه النظام السياسي، بما يقرِّبها أحيانًا من الانخراط بتحالف تكتيكي مع تنظيم الدولة (كما حال بقايا حزب البعث وبعض التنظيمات المسلحة التي ظهرت في مرحلة المقاومة العسكرية للاحتلال)، فإن هناك قوى أخرى طورت مواقف أكثر براغماتية وصارت تميل إلى الوصول لحلول من داخل النظام كما هي حال الكتل السنية الرئيسية في البرلمان، كائتلاف متحدون بزعامة أسامة النجيفي والحزب الإسلامي الذي يمثِّله رئيس البرلمان الحالي، سليم الجبوري، وكتلة صالح المطلك. وقد أدَّى انتزاع تنظيم الدولة السيطرة على معظم المناطق السنية بعد العام 2014 إلى إضعاف جميع القوى السنية الأخرى من حيث إفقادها لقدرة التواصل مع مجتمعاتها المحلية وجعل قوتها التمثيلية في موضع التساؤل، مع الأخذ بالاعتبار، أن معظم القوى السنية الممثلة في بغداد قد فقدت الكثير من هامش المناورة لديها وصارت معتمدة على بغداد في إضفاء الشرعية على وجودها السياسي.

رابعًا: الموقف الكردي

بخصوص الموقف السائد من الكرد تجاه الخليج ، فرغم أنه لا ينفصل كثيرًا عن وعي ذاتي كردي تَشَكَّل عبر السنين يميل إلى التوجس تجاه القوميات المجاورة، ومن بينها العربية، إلا أنه متحرر من ضغط الجغرافيا والعامل الطائفي. فلأن الكرد ينتمون في غالبيتهم إلى المذهب السني، لا توجد حساسية طائفية مع الخليج، ولأنهم ينتمون إلى قومية غير عربية، لا يعتبرون العلاقة مع الخليج محورية في تحديد هويتهم ومنظورهم الجيوسياسي. هنالك عوامل أخرى أسهمت في تحقيق مقبولية أكبر للكرد خليجيًّا، من بينها غياب تراث صراعي بين الجانبين والتعويل على الجانب البراغماتي في العلاقة لاسيما فيما يخص التعاون الاقتصادي، لكن بالمنظور العام، فإن الخليج غير مركزي في الوعي الكردي تجاه الآخر، خصوصًا عند المقارنة بالأتراك والإيرانيين. 

ويمكن القول: إن علاقة إقليم كردستان بالخليج قد تأثَّرت في السنوات الأخيرة بثلاثة عوامل:

  • الأول: حاجة الإقليم للدعم المالي والاستثمارات الخليجية، التي استطاع أن يجذب شيئًا منها، وإن لم يكن بنفس مستوى الاستثمار المالي التركي في الإقليم. وقد تفاقمت هذه الحاجة في ظل الأزمة المالية التي يمر بها الإقليم مؤخرًا.
  • الثاني: الصراع مع بغداد: فبسبب توتر العلاقات بين الإقليم وبغداد فيما يخص توزيع وإدارة عوائد النفط وطبيعة إدارة الحكم في بغداد، اتجه رئيس الإقليم، مسعود البرزاني، في السنوات الأخيرة إلى التقارب مع المحور الإقليمي المناوئ لحكومة بغداد، وبالطبع لداعمها الإقليمي الرئيسي، إيران، أملًا في الضغط على بغداد من جهة، أو تأمين شبكة دعم إقليمية لمحاولات كردستان الانفصال عن العراق. وقد قام البرزاني بجولة خليجية في نهاية العام 2015، ولقي استقبالًا في السعودية يشبه ذلك الذي يُقدَّم لزعماء الدول، فيما بدا أنه إشارة لتعويل سعودي مقابِل على الدور الذي يمكن أن يلعبه إقليم كردستان في الحد من النفوذ الإيراني في كلٍّ من العراق وسوريا.
  • الثالث: العلاقات الكردية-الكردية: فالقوى الكردية لا تتفق على موقف واحد من بغداد، أو من العلاقات الخارجية، حتى مع محاولاتها الحفاظ على وحدة كردية ظاهرية وخطاب موحد تجاه الآخرين. يتعلق الأمر بطبيعة العلاقات التاريخية والامتدادات الاقتصادية البراغماتية لكل من هذه القوى؛ فحزب الاتحاد الوطني الكردستاني لديه علاقات تاريخية وثيقة مع إيران، وهو أقل تحمسًا لخيار الانفصال عن العراق ويرى في هذا الخيار محاولة من الحزب الديمقراطي الكردستاني لتوطيد سلطته على الإقليم وإضعاف منافسيه بادِّعاء أنه الممثل الأكثر أصالة للشعب الكردي. وينظر حزبا الاتحاد الوطني والتغيير (غوران) إلى تطور علاقات الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يسيطر على حكومة الإقليم، مع تركيا والخليج على أنها محاولة للكسب الحزبي أكثر منها تعبيرًا عن مشروع كردي ناضج، وما زالا يميلان إلى صيغة في العلاقات الخارجية لا تصطدم كثيرًا بالقوى الشيعية في بغداد.

الاستنتاجات

يمكن القول: إن مسألة الهوية شكَّلت محورًا رئيسيًّا في توجيه نظرة القوى العراقية إلى الخليج، وبالعكس. فالعراق الذي يمتلك إطلالة محدودة على الخليج، وحدودًا مع دولتين خليجيتين (الكويت والسعودية) لم يحسم بعد صراع الهوية الخاص به. وبسبب وجود رؤى عراقية مختلفة لهوية البلد، كان من الطبيعي أن تكون هناك مفاهيم متباينة لعلاقاته الخارجية، وأن تتأثر صلاته السياسية والاجتماعية بالخليج بفعل ذلك. إطلالة العراق على الخليج لم تحوِّلْه إلى دولة خليجية بالمعنى السياسي والثقافي، فالعراق “الجمهوري” المتنوع إثنيًّا وذو الغالبية الشيعية، يعكس تكوينًا ثقافيًّا يصعب اختزاله بصفة الخليجي ويخلق ممانعة خليجية تجاه دمجه بفكرة “الخليج”. كما أن معظم القوى السياسية والاتجاهات الفكرية التي هيمنت في العراق، منذ الخمسينات على الأقل، لم تكن تتجه إلى الجنوب في نظرتها لموضوع الهوية، بل اتجهت غربًا نحو مصر وسوريا (القومية العربية تحديدًا)، أو شمالًا نحو المعسكر الاشتراكي المنهار (الحزب الشيوعي)، أو شرقًا نحو إيران (الإسلام السياسي الشيعي).

ورغم التباين الواضح بين النظام السابق قبل 2003 والنظام الحالي في العراق، من حيث التوجهات والقوى الاجتماعية المهيمنة، إلا أن العلاقة مع الخليج كانت دائمًا غير مستقرة وغير محسومة وغير محكومة برؤية استراتيجية. فحتى في زمن التقارب خلال فترة الثمانينات؛ حيث كان معظم دول الخليج يدعم العراق في الحرب مع إيران، لم يكن هنالك قالب سياسي وثقافي استراتيجي يحكم علاقتهما التي سرعان ما انقلبت إلى عداء وحرب في التسعينات بعد غزو الكويت. وبدلًا من أن يؤدي تغيير النظام بعد العام 2003 إلى تقارب، ظهر أن الفجوة قد تعمقت، وفي الغالب ظلَّت تُراوِحُ بين العداء وعدم الارتياح والتعايش الصعب. من هنا يبدو أن مشكلة الموقف من الخليج ترتبط كثيرًا بمشكلة العراق مع ذاته، كما بمشكلة الخليج مع هويته. فالعراق الذي قادته رسميًّا عقيدة قومية عربية ومناوئة للغرب، كان يتطلع إلى دور ريادي في قيادة المنطقة، وكان يرى في فكرة الخليج هوية إقليمية ضيقة، ويعتبر دول الخليج كيانات محافظة لا تنسجم مع تطلعه الثوري. أمَّا عراق اليوم، الذي تقوده قوى إسلامية-شيعية، فيرى في دول الخليج “ضدًّا-طائفيًّا”، ويركن إلى مظلة التحالف مع إيران، وبالتالي التخندق -فعليًّا- مع أحد المعسكرين المتصارعين في المنطقة.

إذن، فالسؤال عن موقف العراق من الخليج يتعلق كثيرًا بالسؤال: أي عراق؟ ولن تكون هنالك إجابة حاسمة على هذا السؤال حتى يتمخض الصراع السياسي وحالة عدم الاستقرار الراهنة عن ملامح محددة للدولة العراقية. فبالرغم من الغلبة السياسية الشيعية، فإن الحديث عن “هوية عراقية” و”رؤية عراقية” ما زال مبكرًا، فتلك الغلبة تحدث في اطار استقطاب وانقسام داخليين، ولم تنتقل بعد إلى مستوى تعريف “الوطنية العراقية”، وهو مستوى يفترض فيه أن تتمكن الغالبية الشيعية من تطوير عقيدة للـ”نحن العراقية”، مستوعبة لتنوع النسيج الاجتماعي والثقافي العراقي، وهو ما يتعسر حصوله في ظل نظام سياسي يعيد إنتاج الانقسام الطائفي، وفي ظل النفوذ السياسي الإيراني الكبير في العراق، المترافق مع تنافس إيراني-خليجي (سعودي خصوصًا) في المنطقة. 

المصدر : مركز الجزيرة للدراسات

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: